نعرف تمامًا أن الإعلام، والقصص، وحتى المجتمع، يعزّزون بعض السلوكيات ويمنحونها طابعًا بطوليًا. لكنها في الواقع، بعيدة كل البعد عن كونها مثالية. والأسوأ من ذلك؟ ذات التصرفات من أبرز الأسباب التي تجعل حياتك أصعب، وتمنعك من الشعور بالراحة والوضوح. تقيّدك، وتجعلك مشوشًا، لا تدري ما الخطأ، ولا تفهم لماذا تتصرف بطريقة لا تشبه حقيقتك… لا تفهم دوافع سلوكياتك التي تراها، كما
يراها الآخرون، نبيلة.
Schémaاستنتجت هذه الصفات من اختبار الـ
وهو أداة نفسية تشمل عددًا كبيرًا من السمات التي تعكس الأنماط الذهنية العميقة المتكوّنة في الطفولة، والتي تؤثر على تفكير الإنسان وسلوكه لاحقًا.
يحتوي هذا الاختبار عادة على حوالي 18 إلى 20 سمة رئيسية، وهي أنماط نفسية مثل الشعور بعدم الاستحقاق، الخوف من الهجر، و غيره. الهدف منه هو زيادة الوعي بهذه الأنماط العميقة التي تتشكل عن طريق سلوكيات مختلفة، وفهم جذورها وتأثيرها، مما يساعد
الشخص على تغييرها وتحسين جودة حياته وعلاقاته.
لكن أكثر ما أثار دهشتي ولامسني بعمق هو هذه الخمس صفات تحديدًا، لأنها دقيقة جدًا وصعبة الكشف خصوصًا لكونها "نبيلة". و عادة ما يشعر من يعاني بها بالقهر و يصعب عليه ادراك السبب لان هذه التصرفات عادا ما تجلب المدح.
هذه التصرفات غالبًا ما تتشكل في مرحلة الطفولة، لأسباب تتعلق بأسلوب التربية والبيئة التي نشأنا فيها. ومن النادر أن ينشأ الإنسان في بيئة مثالية بنسبة مئة بالمئة، فآباؤنا بشر مثلنا، وقد حاولوا في ظل ضغوط الحياة أن يوفروا لنا ما استطاعوا.
ولا داعي أن تندب حظك أو تبدأ باللوم، فالموضوع سهل الحل، والحل غالبًا ما يتواجد في إدراك المشكلة. واليوم سأساعدك على الانتباه لهذه السلوكيات التي تسببت بخلل في توازنك النفسي.
١. الحنية و التعاطف الزائد
.قد تبدو الطيبة فضيلة… لكنها تستنزفك عندما تصبح عادة تلقائية.
حين تعتاد وضع احتياجات الآخرين فوق احتياجاتك، فإنك تدفع بنفسك نحو الإنهاك، دون أن تدرك ذلك. لانك تدفع بنفسك جسديًا ونفسيًا لما هو فوق قدرتك. وعلى عكس ما تُظهره الأفلام والروايات والرسوم المتحركة، لن يصفق لك أحد، ولن يلاحظ أحد ذلك. لماذا؟ لانه من المستحيل للناس ان تدرك ما يدور بنفسك للتعاطف مع صراعاتك الداخلية. لا يقدر شخص آخر ان يدرك مدى تضحياتك و من الخاطىء ان تعمل على مبداء التعاطف و التضحيات متوقعا من الآخرين ان يعملو على نفس هذا المنهج
يمكنك التعرّف على التضحية المذمومة بسهولة: هل تجد نفسك المتأذي الأكبر في علاقاتك؟ هل تُفرط في العطاء حتى تنفجر غضبًا أو تمتلئ حقدًا؟ إذن، أنت تبذل أكثر مما تحتمل.
إذا كنت تستثمر كثيرًا في مشاكل الآخرين، تلعب دور المعالج النفسي، وتشعر بالذنب إذا لم تساعد – حتى لو لم يكن ذلك واجبك – فغالبًا تعاني من نمط التضحية الزائدة. أنت تتعاطف كثيرًا مع مشاعر الآخرين، لا سيما الضعفاء والمكسورين، وهذا سيجذب إلى حياتك أشخاصًا يستغلونك. والمفارقة أن هذا التعاطف لا يشمل مشاعرك الشخصية؛ بل تتجاهلها وتقلّل من شأنها، حتى تنفصل تدريجيًا عن ذاتك، وتفقد القدرة على تحديد ما تحب أو تكره وتشعر أنك لا تفهم ذاتك، لأنك اعتنيت بمشاعر الآخرين على حساب مشاعرك على الدوام.
نكرر: لا أحد يهتم فعليًا إن كنت قد ساعدت أم لا. هذه الحقيقة لا يجب أن تؤلمك، بل تريحك. كن أنانيًا بعض الشيء، فالدنيا لا تقوم على طيبة قلبك. أعد توجيه تعاطفك ومساعدتك إلى نفسك، فلا أحد سيمنحك ما لم تمنحه لنفسك أولًا.
قدم المساعدة فقط عندما يُطلب منك مباشرة وبصريح العبارة، وحتى في هذه الحالة، قدم المساعدة على قدر استطاعتك فقط.
٢. التواضع المذموم
التواضع فضيلة، لكن إذا زاد عن حده انقلب إلى نقص. التواضع لا يعني أن تستخف بنفسك أو تقلّل من شأن قدراتك، بل أن تتجنّب التفاخر والتكبّر على الآخرين. لكن إذا كنت تعتذر باستمرار، وتحمّل نفسك اللوم، وترفض المديح، وتقلّل من مواهبك وقدراتك، فهذه مؤشرات على شعور داخلي بالنقص، وعلى اعتقادك بأنك غير محبوب أو عديم القيمة.
قد يبدو هذا التواضع أدبًا وتهذيبًا، لكن مع الوقت سيبدأ الناس في معاملتك بطريقة سيئة. لماذا؟ لأنك ترسل إليهم – دون وعي – رسالة بأنك لا تستحق، أو أن قيمتك أقل من غيرك. إذا لم تضع لنفسك قيمة، فلن يفعل أحد ذلك نيابةً عنك. هذه الحقيقة واضحة. يجب أن تُغيّر الطريقة التي تتعامل بها مع نفسك والآخرين. الصحيح أن تعامل نفسك كما تعامل الآخرين، وأن تتوقف عن المبالغة في احترام مشاعر غيرك على حساب مشاعرك.
وتذكر: أنت فقط من يشعر بهذا المستوى من الحساسية. لذا، أنصت إلى نفسك، دلّلها، وامنحها الحب. لا أحد يرى الحياة بهذه الهشاشة سواك، فلا تكترث كثيرًا.
٣. كبت المشاعر
قد يُقال عنك إنك ناضج، وهادئ في أصعب الظروف، وواعي نفسيًا. لكن هذا المديح في غير محله. أهم حقوق الروح هو الحق في التعبير. ما تراه الناس قوة داخلية، هو في الحقيقة خوف عميق ترسّخ في طفولتك، بسبب بيئة علمتك أن التعبير ضعف، أو سلوك غير مقبول، أو يجلب العقاب والنبذ.
لكنك حين تكبت مشاعر الغضب والحزن والخوف، تفقد بالمقابل القدرة على الشعور بالفرح والرضا. تصبح أجوف من الداخل، لا تعرف نفسك.
ليس من الضروري أن تتعامل مع مشاكلك بابتسامة. من الطبيعي أن تحزن، أن تغضب، أن تخاف. المهم أن تشعر بالشعور المناسب في وقته المناسب. هذه هي الطريقة الوحيدة لتعيد الاتصال بنفسك وتكسر الحاجز بينك وبينها.
٤. إرضاء الناس
قد يُقال عنك إنك هادئ، غير مثير للمشاكل، متعاون. لكن الحقيقة؟ أنت تخشى الرفض، المشاكل، أو العقاب. غالبًا ما ينشأ هذا النمط في بيئة كانت ترفض التعبير عن الرأي، وترد عليه بالتوبيخ أو العقوبة. لكنك لم تعد طفلًا، وخوفك من المواجهة موجود فقط في خيالك. لن يحدث شيء سيئ إن عبّرت عن نفسك. مع الوقت، سيتسبب هذا السلوك في تهميشك. ستتحوّل إلى مجرد ظلّ في التجمعات والمناسبات. كل هذا في سبيل ماذا؟ لتُوصف بأنك "مسالم"؟ الحقيقة أن هذه الصفة لا تستحق كل هذا الثمن. وسيأتي وقت تُنسى فيه ببساطة، لأنك لم تصنع لنفسك كيانًا حقيقيًا. فمَن تكون إذا أذبت نفسك حتى لا يكون لك أثر؟
صدقني، ارائك و رغباتك و متطلباتك ليست عبئا على احد. فكون لنفسك صوت تعبر به عن ما يدور بنفسك، لانك تستحق.
٥. المثالية
قد يمدحك الناس لأنك مجتهد، ملتزم، مستقل. لكن الحقيقة أن هذا السلوك غالبًا ما ينبع من شعور داخلي بأنك غير كافٍ. لتعويض هذا الشعور بالنقص، تفرض على نفسك معايير عالية وغير واقعية لتكسب القيمة من خلال العمل والإنجاز، لأنك لا تراها في ذاتك.
هذه التصرفات قد تكون مفضّلة في بيئات العمل، لأنها تعود بالنفع على المؤسسة. لكنها تدمّرك أنت. تذكّر: أنت تستحق الراحة، وقيمتك لا تُقاس بما تنتجه أو تبذله من جهد.
الخلاصة
جميع هذه العادات تؤذيك، حتى لو بدت مفيدة لمن حولك. فهي تُذيب ذاتك، وتحولك إلى مجرد أداة لخدمة الآخرين. ولهذا السبب يعجب بها الناس ويمدحونها. لكن لو كانت هذه السلوكيات فعلًا نبيلة وصحيّة، لكان الجميع التزم بها. لا تأخذ برأي الناس كثيرًا، فقلّة فقط من يهتمون بمصلحتك. وإن كنت أنت تعاني من سلوكيات غير صحيّة، فهذا لا يعني أن الجميع كذلك. لا تنظر إلى الدنيا بعينك وحدك، بل تبنَّ رؤية صحيّة، قائمة على الاكتفاء وتكريم الذات.
إذا وجدت أن واحدة أو أكثر من هذه العادات تُشبهك أو شعرت بأنها مألوفة لك، فابدأ بالبحث عن "علاج التخطيطات النفسية (
Schema Therapy)" عبر الإنترنت، واقرأ أكثر عن كيفية التخلّص منها ومعالجتها.
Comments
Post a Comment